أكواريوس: مد اليد
للمهاجرين في عرض البحر

عشرة أيام على متن سفينة إغاثة في البحر المتوسط

أنقر هنا للتصفح


  سفينة أكواريوس في عرض البحر

خاض مهاجر نيوز، برفقة فريق الإنقاذ المكون من عناصر من منظمة أطباء بلا حدود ونجدة المتوسط "إس أو إس ميديترانيه"، رحلة بحرية على متن سفينة أكواريوس لإنقاذ المهاجرين دامت عشرة أيام. نستعرض أبرز لحظاتها في هذه اليوميات.

بداية الرحلة مع الكثير من الأسئلة

بعد رحلة جوية من باريس إلى مدينة كتانيا في أقصى جنوب إيطاليا، توجهنا إلى ميناء المدينة، حيث كانت سفينة أكواريوس بانتظارنا. مثقلين بالكثير من الأسئلة التي كنا نحاول إيجاد إجابات لها منذ مدة. من هم أفراد فريق الإنقاذ؟ ولماذا اختاروا القيام بهذا العمل؟ وما السر وراء هذه الطاقة التي تجعلهم يأنسون للبحر لعدة أيام دون أن يروا اليابسة؟ وكيف تتم عملية الإنقاذ؟ كيف يتم استقبال المهاجرين على متن السفينة؟ وغيرها من الأسئلة التي تطوقنا من كل جانب.

الكوارث التي شهدها المتوسط دفعت بالكثير من المنظمات الإنسانية للتفكير في إيجاد حل، والعمل للتدخل في محاولة للحد من عدد الموتى في عرض البحر من الهاربين من النزاعات، أو من الباحثين عن أوضاع اجتماعية أفضل. وجاء إطلاق تجربة سفينة أكواريوس من قبل منظمة أطباء بلا حدود ومنظمة نجدة المتوسط "إس أو إس ميديترانيه"، كمحاولة من المنظمتين للمساهمة في وقف هذا النزيف.



ريم بوعروج، طبيبة تونسية تعمل ضمن فريق "أطباء بلا حدود"



الوصول إلى كتانيا


  طبيب من أطباء بلا حدود يعطي توجيهات في الإسعافات الأولية

يبدو ميناء كتانيا ككل المرافئ في العالم، ترسو به بضعة سفن والكثير من المراكب الصغيرة غير بعيد عن بركان إتنا ودخانه المتصاعد، الذي تعرف به جزيرة صقلية.

في ركن شبه معزول من الميناء، كانت ترسو سفينة أكواريوس. استقبلتنا الشابة بينيديتا الملقبة ببيني، التي تعمل لصالح نجدة المتوسط أو "إس أو إس ميديترانيه"، بفرنسية تغلب عليها اللكنة الإيطالية ملفوفة بابتسامة ترحيب، كانت بالنسبة لنا بطاقة انخراط في هذه العائلة الكبيرة المكونة من طاقم السفينة ومسعفي أطباء بلا حدود، ورجال ونساء نجدة المتوسط.

تشتغل نجدة المتوسط وأطباء بلا حدود، جنبا لجنب، وبهدف واحد ووحيد هو إنقاذ المهاجرين من الغرق، في جو تعاوني، تحكمه ضوابط محددة في كل تفاصيل الحياة اليومية على السفينة. والصحافيون أيضا ملزمون بالامتثال لجزء منها منذ اللحظة الأولى من ركوب أكواريوس كما أكدت على ذلك بيني، وبعدها مساعد قبطان السفينة الروسي.

أول انطباع يمكن أن يخلص إليه الوافد الجديد على السفينة، هو أن فريق الإنقاذ يعمل كخلية نحل متناغمة ووفق برنامج يومي محدد سلفا. حتى بالنسبة لوجبات الطعام، لا ينبغي تجاوز الساعة المحددة لذلك، وإلا سيكون المخالف مطالبا بغسل صحونه وأدوات طعامه، ويخسر المتأخر عن مواعيدها أيضا "فرصة تذوق أطباق الطباخين الإندونيسي كريسمان والغاني رابي الاستثنائية"، تحذرنا بسخرية الإيطالية بيني، لأنها عادة ما تكون من نصيب الملتحقين الأوائل بالمطبخ، ويكتفي المتأخرون بما تبقى من الطعام.



انطلاق السفينة


  فريق الإنقاذ في تدريب خاص في عرض البحر

غادرت السفينة ميناء كتانيا في صباح 21 أبريل/نيسان بعد أن قضينا على متنها ليلة واحدة. كانت انطلاقة الرحلة بداية لسلسلة من الاجتماعات والتدريبات على ظهرها بانتظار أي تدخل محتمل لإنقاذ المهاجرين. وبدت الإيطالية نتاليا المكلفة بالعلاقات مع الصحافة في قلق دائم، تحاول أن ترعى بعناية كبيرة صورة "نجدة المتوسط"، بعد أن وجهت لها النيابة العامة في جزيرة صقلية اتهامات خطيرة.

تبلغ تكاليف تحركات السفينة يوميا 11 ألف يورو، وتعتمد في توفيرها على هبات خاصة وفردية، ولا تتلقى أي مساعدات حكومية أو أوروبية. وكانت في المدة الأخيرة هدفا لمجموعة من الاتهامات الخطيرة وجهتها لها النيابة الإيطالية، على أنها تتعاون مع مهربي البشر في ليبيا لعبور المتوسط. ونفت نجدة المتوسط في أكثر من مناسبة ذلك جملة وتفصيلا.

لم تحاول نتاليا أن تمارس "الرقابة" علينا، كما تقول، بل هي هنا "لمساعدتنا على أداء عملنا"، وتعتقد أن "توجيهاتها" تجنب "نشر أخبار حول الرحلة غير مؤكد من صحتها أو قد تكون جانبية"، أو يمكن أن تؤول بشكل خاطئ، ما يفسر العبء الملقى على عاتقها في الحفاظ على صورة منظمتها أمام الضغط القضائي والإعلامي الإيطاليين اللذين تتعرض له.

خلال اليومين الأولين من الرحلة، تعرفنا أكثر على نساء ورجال الإنقاذ، بينهم الهولندية مارسيلا رئيسة فريق أطباء بلا حدود، وهي امرأة هادئة خبرت المهمات الصعبة في العمل الإنساني في عدة مناطق ساخنة بالعالم. ريم، العربية الوحيدة في الفريق، طبيبة تونسية، وهي شابة دائمة الحيوية لا تفارق محياها الابتسامة، تضطلع بدور مفصلي في عملية الإنقاذ، لأنها أول من يدخل في حوار مع المهاجرين في عرض البحر.

الإيطالية ببيني، العاشقة للعمل الإنساني والدارسة للأدب الفرنسي. الأمريكية إليزابيت، طبيبة التوليد الرقيقة، اختارت العمل الإنساني في سن التقاعد. البحار الفرنسي أنطوني، عاشق البحر، حيث يعتبره "حديقته ولا يمكن له أن يبقى مكتوف اليدين في حال كان أحد المهاجرين في حالة خطر"، الإيطالي ديكو رئيس فريق الإنقاذ، صاحب التوجيهات بصوت خافت الذي يستمع له الجميع عندما يتكلم، وغيرهم من نساء ورجال أكواريوس.



البحث عن المهاجرين


  عملية البحث عن مهاجرين لاتزال متواصلة

مرت ثلاثة أيام على مغادرة السفينة ميناء كتانيا الإيطالي. يستقبلنا رابي كل صباح بجملة فرنسية يحفظها عن ظهر قلب "كيف أحوالك...بخير"، لأنه لا يتحدث إلا الإيطالية والقليل من الإنكليزية، مصحوبة بابتسامة عريضة ترافقها ابتسامة أخرى خجولة من زمليه كريسمان. "نحن محظوظون لدينا طباخان على السفينة يحضران لنا أطعمة شهية"، يقول البحار الفرنسي أنطوني، مشيدا بما يقدمانه من أطباق.

وككل صباح يطلع ديكو فريق الإنقاذ بما استجد حول أحوال الطقس في اجتماع يحضره الجميع مباشرة بعد تناول وجبة الفطور. وفي هذا اليوم تقدم طبيبة التوليد إليزابيت توجيهات للفريق في حال وجود نساء حوامل بين المهاجرين.

"الولادة على السفينة تبقى بمثابة الحلم" بالنسبة لإليزابيت، تقول هذه الطبيبة الأمريكية بعينين حالمتين، وهي تعرض أمامنا الألبسة التي تقدمها للنساء المهاجرات وأطفالهن عند صعودهم إلى الباخرة في القاعة المخصصة لهم، وغير بعيد توجد قاعة أخرى مخصصة لاستقبال المهاجرين، الذين تعرضوا للتعذيب ويريدون الإدلاء بشهاداتهم.

واصل فريق الإنقاذ عملية البحث في اليوم الرابع من الرحلة، وكانت مفاجأة اليوم ظهور جثة تطفو على سطح البحر لم يعرف مصدرها. حذرتنا الأمريكية ماري-جو، التي تعمل لأطباء بلا حدود، من الاقتراب من منطقة تواجدها، تفاديا للصدمة التي يحدثها هذا المشهد الأليم. واستعانت أكواريوس بسفينة إنسانية ألمانية، تحتوي على غرفة تبريد لحفظ الجثث لانتشالها.

تبحر أكواريوس في المياه الدولية غير بعيد عن السواحل الليبية بسرعة بطيئة جدا لتمشيط المنطقة. وفي الوقت نفسه يقوم فريق الإنقاذ بتدريبات على التدخل في حال استدعى الأمر ذلك. وتقول بيني، بلكنة إيطالية، عن هذه التدريبات إنها "ليست ضرورية إلا أنه من المستحسن القيام بها"، فيما يعتبر زميلها الفرنسي أنطوني "أنها تسمح للفريق بمراقبة آليات الإنقاذ ومدى انسجام الفريق في الحالات الطارئة".

الكل مطالب بالمشاركة بالتدريبات بما في ذلك الصحافيون الذين تنظم معهم بشكل شبه يومي لقاءات، لاطلاعهم على آخر المستجدات بخصوص عملية البحث عن مهاجرين يمكن إنقاذهم. فليس هناك أي مجال لأن يستقر الملل وسط الفريق، وإن كان لم يظهر حتى الآن أي جديد يتطلب التدخل، فالفريق له برنامج يومي على الجميع الالتزام به.



رحلة طالت أيامها


  رئيس الفريق ديكو يعطلي التوجيهات لإجراء تدريبات

الرحلة تدخل يومها الخامس، وليس هناك أي عملية إنقاذ في الأفق القريب على الأقل. حالة الطقس لا تساعد المهاجرين على ركوب مخاطر البحر، وفق شروحات البحار الفرنسي أنطوني. ويفضل المهاجرون ركوب قوارب "الموت" في الفترات التي يكون فيها الطقس حسنا. و"البحر المضطرب لا تساعد أمواجه مراكب المهاجرين على التقدم في الاتجاه الصحيح".

وبدخول الرحلة يومها السادس بدأت تظهر افتراضات، يمكن أن تأخذ الرحلة بموجبها مسارات جديدة. فحسب رأي الإيطالية بيني، "بقاء السفينة في عرض البحر يمكن أن يطول لعدة أيام أخرى، ويمكن أن تغير اتجاهها نحو منطقة أخرى في أي لحظة". فأكواريوس لا يمكنها أن تعود إلى أحد الموانئ الإيطالية دون أن تقوم بعلمية إنقاذ واحدة على الأقل.

مع توالي الأيام على ظهر أكواريوس، توطدت علاقاتنا مع معظم عناصر الفريق، وانتابنا شعور أننا وسط عائلة واحدة شاركنا بعض أفرادها تجاربهم في العمل الإنساني، بل وحتى تجاربهم الخاصة في بعض الأحيان مع استقرار نوع من الثقة بيننا، ومن بين هؤلاء الشاب اليوناني يازون، الذي اشتغل في جزيرة ليسبوس لحساب منظمة إنسانية لمدة ستة أشهر قبل أن يلتحق بنجدة المتوسط.

يسمعنا يازون الكلمات والعبارات العربية التي تعلمها أثناء عمله مع اللاجئين السوريين في جزيرة ليسبوس اليونانية من قبيل "مرحبا"، "اسمك، من أين أنت..."، وغيرها من المفردات والعبارات العامية السورية على هامش وجبة عشاء جمعتنا في قاعة الطعام بالسفينة، في الوقت الذي كانت فيه أمواج البحر تضرب نوافذ السفينة بكل قوة، ما كان ينذر بانعدام كل الفرص في العثور على مهاجرين أحياء في مثل هذه الظروف.

يرفض عناصر فريق الإنقاذ الحديث عن الرتابة على متن أكواريوس، وإن كان يظهر أنهم يقومون بكل ما يمكن لمحاربتها. ديكو رئيس فريق الإنقاذ أخذ اليوم عناصره للقيام بمراقبة عامة للقارب رقم 3 الذي يستعمل في عملية الإنقاذ. وفي الوقت نفسه كان مستخدمو السفينة، وهم مهاجرون غانيون يقيمون في إيطاليا بطريقة شرعية، يقومون بتجميع القمامة وضغطها بواسطة آلة وضعت لهذه الغاية، فيما تتأكد الإيطالية بيني من متانة سترات النجاة الواحدة تلو الأخرى.





القبطان الروسي يشرح لنا موقع تواجد السفينة بالنظر للسواحل الليبية


تتوالى الأيام في عرض البحر، فيما تواصل السفينة تمشيط المياه الدولية في اليوم السادس من الرحلة على بعد 37 كلم من السواحل الليبية، وفق شروحات قبطان السفينة الروسي واجسييش، الذي يرجع سبب بقائها بعيدا عن المياه الإقليمية الليبية إلى تفادي أي احتكاك مع خفر السواحل هذا البلد، وتجنب أي اعتداء محتمل من الميلشيات الليبية المسلحة.



لحظات الحزن والفرح على أكواريوس


  إحياء ذكرى مقتل أحد عناصر أطباء بلا حدود في أفريقيا الوسطى

في عصر هذا اليوم، أحيا عناصر أطباء بلا حدود بحضور زملائهم من نجدة المتوسط الذكرى الثالثة لمقتل ثلاثة أفراد من المنظمة في هجوم مسلح بأفريقيا الوسطى، قتل فيه 16 شخصا. وبدت زميلتهم ماري-جو، التي نجت من الاعتداء بأعجوبة، متأثرة جدا وهي تلقي كلمة تأبين لزملائها الذين قضوا في الاعتداء.

وتحكي ماري-جو أنها تعرضت مع زملائها لهجوم مسلح في أفريقيا الوسطى في 2014 عندما كانت بصحبتهم في مهمة إنسانية، حيث أطلق المسلحون النار على كل من وجدوه أمامهم، فيما اندست هي خلف جدار، ولم تخرج إلا بعد أن غادر المهاجمون المكان.

في اليوم السابع من الرحلة، كان الطقس معتدلا، ما شجع بعض عناصر الفريق على ممارسة الرياضة في المساحة الخلفية من السفينة، كما كان للوافدين الجدد على الباخرة من الصحافيين والمتطوعين موعد تدريب على الإسعافات الأولية تحت إشراف الطبيب الأسترالي كيني.

استغرب رجال الإنقاذ غياب أي مؤشرات على وجود مهاجرين في البحر رغم تحسن الطقس. "فقد يكون يوم عيد وطني في ليبيا أو أن المنطقة تشهد مواجهات"، قال الرئيس ديكو محاولا إيجاد تفسير للوضع.

استمر البحث عن المهاجرين من خلال رادار السفينة، الذي ينقل عن بعد تحرك أي شيء غريب على شاشة القيادة دون أن يكون ممكنا تحديد طبيعته. "قد يكون قارب للمهاجرين أو مركب صيد أو أي شيء آخر يطفو على السطح"، لا يمكن رؤيته بشكل واضح على شاشة القيادة، يوضح قبطان السفينة، فيما يستخدم فريق الإنقاذ المنظار لمراقبة الحركة في البحر.

حتى الآن لا يوجد مهاجرون في البحر يمكن إنقاذهم، فيما ظهرت فجأة دلافين تلاعب مقدمة السفينة وكأنها تحاول أن تمنعها من التقدم، ما دفع فريق الإنقاذ للتجمع في لحظة فرح لمشاهدة رقصاتها عبر الأمواج، لكن المشهد لم يدم إلا دقائق معدودة. ويعود الجميع للتركيز على المهمة التي يوجدون جميعا من أجلها على ظهر الباخرة.

العمل الإنساني يعرض هؤلاء في مناسبات عدة لمشاهد مؤلمة، لايزالون يتذكرونها، كما هو شأن الممرض الأمريكي مارك، الذي عاين في 2016 مأساة إنسانية بكل المقاييس، عندما وصل برفقة زملائه إلى مركب للمهاجرين، وإذ به يكتشف جثث 21 امرأة قضين دوسا بالأقدام بسبب الكم الهائل من المهاجرين على المركب.



يوم إنقاذ المهاجرين


  النزول إلى البحر لإنقاذ مهاجرين

اليوم الثامن من الرحلة كان استثنائيا مقارنة مع بقية الأيام التي قضيناها على ظهر السفينة، حيث لاحت في الأفق منذ الساعات الأولى من الصباح مؤشرات بأن هناك مركبين لمهاجرين ينتظرون من ينقذهم. الخبر نقله لفريق الإنقاذ الرئيس ديكو، الذي وصلته بدوره معلومة من المكتب البحري الإيطالي التابع لوزارة النقل، المعروف بـ"إم إر سي سي"، وطلب من السفينة التدخل.

بدأت الاستعدادات على قدم وساق، حيث قام جميع عناصر الفريق بوضع خوذات على الرأس وارتداء سترات النجاة، كما قاموا بإعداد البطانيات التي تقدم للمهاجرين عند صعودهم على ظهر السفينة التي كانت تتقدم نحو المركبين بأكبر سرعة ممكنة. ولم يمر وقت طويل وإذ بمركب محمل بالمهاجرين يظهر من بعيد.

تقترب منه سفينة أكواريوس شيئا فشيئا، ثم يتم إنزال القاربين السريعين، يركبهما بعض عناصر فريق الإنقاذ بينهم ريم، الطبيبة التونسية، التي يكمن دورها بتطمين المهاجرين، وشرح جميع مراحل عملية نقلهم على متن السفينة بثلاث لغات: العربية والفرنسية والإنكليزية. يقترب قاربها أكثر فأكثر من مركب المهاجرين.





فريق الإنقاذ يصل إلى المركب الخشبي للمهاجرين


كان التعب باديا على وجوه المهاجرين فيما ريم تحدثهم بصوت عال: "نحن هنا لمساعدتكم، أرجو أن تعملوا بتوجيهات فريق الإنقاذ" حتى تمر العملية في أحسن الظروف، وتهدئ في الوقت نفسه وشوشات البعض منهم ومحاولاتهم القيام من أماكنهم لمغادرة المركب في أسرع وقت ممكن، بينما ظل شخصان منهم ممدين على السفينة.

مهاجرون – ليبيا




وما إن انتهت ريم من شروحاتها حتى تقدم القارب السريع الثاني من المركب الخشبي للمهاجرين. وبدأ ماكس الإيرلندي الجنسية وزملاؤه بنقل مهاجر بنغالي فاقد للوعي، حاول الممرض الأمريكي على متن قارب النجدة التحدث إليه، إلا أنه لم يتلق منه أي جواب. كما تم إخراج بنغالي ثان كان يقف على قدميه بصعوبة، ليتم التوجه بهما بسرعة إلى السفينة لتقلي العلاجات تحت إشراف الطبيب الأسترالي الشاب كيني. فعملية الإنقاذ تبدأ كما هو معتاد بالحالات الطارئة.

تواصل نقل المهاجرين من المركب الخشبي إلى سفينة أكواريوس عبر مجموعات، حيث تستقبلهم بيني وباقي عناصر أطباء بلا حدود، الذين يضعون لهم أساور بلاستيكية باللون الأزرق أو الأصفر، لتمييز القصر والمرضى، وتسجل أسماء بلدانهم. كما تقدم لهم بدلة رياضية لمن هو في حاجة لذلك وبطانية للاحتماء بها من البرد ليلا.

أنهى الفريق إنقاذ ركاب المركب ونقل الجميع إلى ظهر السفينة. ليتوجه بعد ذلك إلى سفينة منظمة إنسانية ألمانية مجاورة، كانت تحمل على متنها مهاجرين سوريين بينهم أطفال أنقذتهم السفينة في البحر، لنقلهم بدورهم إلى أكواريوس تحت صراخ الأطفال.





نقل أحد المهاجرين بسرعة إلى السفينة كان فاقدا للوعي


لم تسجل أي حالة وفاة في صفوف المهاجرين، وتمت عملية الإنقاذ، التي دامت 12 ساعة، في ظروف حسنة، وفق تعليق عناصر الإنقاذ. كما تلقى المصابون كل العلاجات اللازمة. وكانت الحصيلة النهائية إنقاذ 187 مهاجرا، 14 منهم تقل أعمارهم عن 18 سنة، ينحدرون من جنسيات أفريقية وعربية وهي سوريا والمغرب وليبيا.

كانت أقوى المشاهد تلك التي رأينا فيها أطفالا سوريين في السنوات الأولى من العمر، بملابس مبللة بالمياه يصرخون بكل ما لهم من قوة وهم ينقلون إلى السفينة. تقرأ في عيونهم الخوف المهول الذي افترس قلوبهم وهم على أبواب مصير مجهول، لكن عناصر فريق الإنقاذ نجحوا في أن يعيدوا لهم بسماتهم الطفولية. وصاروا يلعبون معهم كأحد أفراد الأسرة.



المهاجرون على ظهر أكواريوس


  أطباء بلا حدود تقوم بعملية تسجيل المهاجرين والاطلاع على حالاتهم الصحية

على ظهر أكواريوس تم تجميع الرجال في مكان خاص. بعد أن قضوا أكثر من ست ساعات في عرض البحر. كما وضعت النساء بمعزل عنهم. وتطلب ترتيب الأمور الكثير من الوقت نظرا للعدد المحدود لعناصر فريق الإنقاذ، والذي لا يتعدى 30 شخصا، وكانوا يستعينون بنا للتواصل مع المهاجرين الذين لا يتحدثون إلا العربية القادمين من السودان والمغرب وليبيا. وفي الساعة الخامسة والنصف مساء بدأ الفريق في توزيع وجبة العشاء، وهي علبة مكونة من الأرز الطازج.

عملية إنقاذ مهاجرين في البحر المتوسط



في اليوم التاسع، توسعت أسرة أكواريوس بوجود المهاجرين على متنها، وأصبح التحرك عبر ممراتها الخارجية يخضع لضوابط جديدة. لم يعد الأكل والشرب والتدخين مسموحا لعناصر فريق الإنقاذ أمام المهاجرين، وكان يتوجب عليهم الاختباء في أماكن غير مرئية على سطح السفينة لأجل ذلك. "فلا يسمح للمهاجرين بالتدخين ضمانا لسلامة الرحلة البحرية"، كما تقول نتاليا في تفسيرها لأسباب ذلك.
يخضع المهاجرون بدورهم لنظام معين في حياتهم اليومية القصيرة على الباخرة. وتقدم لهم وجبتان يوميا فقط: الفطور والعشاء في توقيت معين. في الصباح يقدم لهم الشاي مع قطعتين من الخبز والجبنة، وفي المساء يحصلون على وجبة معلبة من الأرز. ولا يسمح بالدخول إلى داخل السفينة، إلا إن استدعت الضرورة زيارة الطبيب.



علاقة فريق الإنقاذ بالمهاجرين


  تقديم الطعام للمهاجرين على أكواريوس

تشكلت علاقة متينة بين المهاجرين وعناصر فريق الإنقاذ طيلة اليومين اللذين قضوهما على السفينة، أطلق خلالها الكثير منهم العنان لدواخله ليكشف عما تعرض له خلال تجربته مع الهجرة إلى أوروبا. وكانت أصعب مرحلة بالنسبة للجميع هي ليبيا، بسبب تعرض العديد منهم للخطف والاحتجاز كما كان شأن السوري عمر، الذي تحدث بمرارة عما لقيه من ميلشيا مسلحة. لكن البعض منهم فضل الانكماش على ذاته، ورفض الحديث لنا بدعوى أن له أقارب في ليبيا ويخشى عليهم من أعمال انتقامية.

قضى المهاجرون ليلتين على متن الباخرة قبل أن يصلوا في اليوم العاشر من رحلة أكواريوس في المتوسط إلى ميناء بوزالو في جزيرة صقلية الإيطالية. وإن كانت هذه الرحلة لا تخلو من صعوبة أيضا بالنسبة لهم، لأن الطعام المقدم لم يرق للجميع، كما أنهم كانوا ينامون على ظهر السفينة في الخارج في طقس لم يخل من الرياح الهوجاء والأمطار العاصفة، إلا أنها ساعدتهم على تجنب خطر الموت.





فريق طبي إيطالي يصعد إلى السفينة لفحص المهاجرين قبل نزولهم


رست السفينة عصر الأحد في ميناء بوزالو، الذي كان مكتظا بالقوات الإيطالية ومعها شرطة الحدود الأوروبية فرونتكس إضافة إلى العديد من وسائل الإعلام. هي لحظات صعبة بالنسبة لفريق الإنقاذ والمهاجرين على السواء. وتقول الإيطالية بيني "ما إن يكون الفريق قد نسج علاقات قرب ومودة مع هؤلاء المهاجرين، حتى يحين وقت نهايتها، وما علينا جميعا إلا القبول بذلك".

صعد شرطيان إلى السفينة للتأكد من هوية المرافقين للمهاجرين. ليأتي بعد ذلك دور طبيب يقوم بفحص الحالات المستعجلة التي تعرض عليه من قبل فريق الإنقاذ، قبل أن يتم إنزال أصحابها ونقلهم على متن سيارة إسعاف، ثم يغادر بقية المهاجرين الواحد تلو الآخر السفينة مع الكثير من القلق على مصيرهم، ليركبوا حافلات بعد مراقبة سريعة من الشرطة.

ويجهل المهاجرون في هذه المحطة الأخيرة من الرحلة ما الذي ينتظرهم. لربما هناك من ستنتهي أحلامه هنا، وسيرحل في الأسابيع المقبلة إلى بلاده، كما تقول مارسيلا قائدة أطباء بلا حدود على أكواريوس. لكنها تشدد على أن هذه الأمور يحتفظ بها عناصر الفريق لنفسه، ولا يكشفها لأي منهم، والاكتفاء بالقيام بالعمل الإنساني. هنا انتهت رحلتنا، ليعود أكواريوس مجددا إلى عرض البحر في مهمة جديدة لإنقاذ أرواح مهاجرين آخرين.





لحظة الوداع الصعبة